يعرف المعنيون بطبائع الطيور المهاجرة أنها قد تضل طريقها مرة أو مرتين أو ثلاث مرات على الأكثر،ثم لا تلبث تلك الطيور أن تتجه إلى وجهتها وتستقيم عليها إلى أقصاها.
والشيء ذاته يصدُقُ على النفس البشرية وهي تلتمس طريقها في الحياة ،فربما ضلّت مرة أو مرات قبل أن تعتدل على نهج تتحراه إلى أقصاه..ومن قرأ في سير التراجم القريبة والبعيدة علم ذلك واستيقنه.
إلا أن الإنسان إذا ما التجأ إلى الله عز وجل ،طالباً منه وضوح الطريق وضوحاً تاماً لما قد خُلق لأجله ويُســِّر له، أتته الإجابة من فورها .
فهذا هو الإمام (القفّال) ذهب ليطلب العلم وعمره أربعون عاماً فقال: كيف أطلب العلم؟ ومتى أحفظ؟ ومتى أفهم؟ ومتى أعلّم الناس؟
فرجع فمر بصاحب ساقية ،يسوق على البقر، وكان رشاء هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مرّ،فقال: ( أطلبُه ولا أتضجر من طلبه).
وأنشد يقول:
اطلب ولا تضجَر من مطـــلبٍ
فآفـــة الطالـــب أن يضــجرا
أما ترى الحبل بطول المـدى
على صليب الصخر قــد أثَّرا
واستمرّ يطلب العلم وصار إماماً من كبار الأئمة ..
ويروى أيضاً إن الإمام العظيم ابن حزم الأندلسي قد طلب العلم وهو في السادسة والعشرين من عمره.
وقد قال عن سبب تعلّمه الفقه: إنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه،فدخل المسجد قبل صلاة العصر،والخلق فيه،فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه بإشارة لطيفة:أن قم فصلّ تحية المسجد. فلم يفهم فقال له بعض المجاورين له: ((أبلغت هذا السن،ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟)) قال: فقمتُ وركعتُ وفهمتُ إشارة الأستاذ لي..
قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحباء من أقرباء الميت، دخلتُ المسجد ، فبادرت بالركوع، فقيل لي: ((اجلس،اجلس، ليس ذا وقت صلاة!!))،فانصرفتُ وقد خزيتُ ولحقني ما هانت عليّ به نفسي وقلتُ للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون، فدلني، فقصدته من ذلك المشهد وأعلمته بما جرى فيه وسألته الابتداء بقراءة العلم،و استرشدته،فدلني على كتاب <الموطّأ > لمالك بن أنس رضي الله عنه فبدأتُ بقراءته من اليوم التالي لذلك اليوم ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام،وبدأتُ بالمناظرة.
وكان سلطان العلماء العز بن عبد السلام،الذي ملأ الأرض علماً وعظمة نفس،في أول أمره فقيراً جداً،ولم يشتغل إلا على كبر.
فمهما تقدّم الإنسان في السن –سواءً أكان في شرق أم في غرب- لا يفوت وقت تعلمه ونهوضه متى أراد ذلك إرادة جازمة.
فالإنسان هوَ هوَ ،ماهيته واحدة لا تتبدل،وذلك منذ فجر الخليقة وحتى قيام الساعة. وهناك شواهد كثيرة..
فإن السيد (هنري سبلْمَن) لم يباشر دراسة العلوم إلا ما بين السنة الخمسين والستين من عمره.. و(فرانكلين) كان ابن خمسين سنة لما شرع يدرس الفلسفة الطبيعية، و(دريدن وسكوت) لم يظهرا كمؤلفين حتى بلغ كل منهما الأربعين.
و(بكاتشو) كان ابن خمس وثلاثين سنة لما شرع في دروسه العلمية. و(الفيري) كان ابن ست وأربعين سنة لما أخذ يدرس اليونانية. و الدكتور (أرنـُلد) تعلّم الألمانية بعد أن طعن في السن لكي يقرأ <ينبهر> بلغته الأصلية.
و(جيمس واط) تعلم الفرنسية والألمانية والإيطالية وهو ابن أربعين سنة لكي يقرأ الكتب المؤلفة فيها في الفلسفة الميكانيكية.
و(توما سكوت) كان في السادسة والخمسين عندما شرع يتعلم العبرانية. و (روبرت هُل) تعلم الإيطالية وهو شيخ طاعن في السن ومبتلى بالأوجاع، لكي يرى صحة المقابلة التي عملها الشهير (ماكولي) بين (ملتن) الشاعر الإنكليزي و(دانتي) الشاعر الإيطالي.
وهناك غيرهم الكثير الكثير..
فلنمعن النظر إلى هؤلاء المبادرين الذين شمّروا عن ساعد الجد والعزيمة، والذين كانوا وما زالوا مثالاً عملياً رائعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعن بالله ولا تعجز،وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا كان كذا وكذا.ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان".
ولو شعروا بشيء من الوهن والعجز واستسلموا له، لما تجاوزوا ماضيهم واستأنفوا المسير بتلك الهمة العالية، ولما انتفع الناس بقدراتهم وطاقاتهم،وما كان للتاريخ أن يخلّد ذكرهم.
لا تقــل فــــات الاوان
وانطلق فالوقت حـــان
إن أردنــا وانطــلقـنا
بالمنى جاد الـزمــان